تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

فإن قيل : لم قال تعالى : (كَفَرُوا) بلفظ الماضي ، وذكر المشركين باسم الفاعل؟

أجيب : بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر ، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر.

وقوله تعالى : (حَتَّى) أي : إلى أن (تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) متعلق بيكن أو بمنفكين ، والبينة الآية التي هي في البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا ظهورا وضياء ونورا ، وذلك هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب ، وهو القرآن.

وقوله تعالى : (رَسُولٌ) أي : عظيم جدّا بدل من البينة بنفسه ، أو بتقدير مضاف ، أي : سنة رسول ، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفا له : (مِنَ اللهِ) أي : الذي له الجلال والإكرام وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجا منيرا ، ولأنّ اللام في البينة للتعريف ، أي : هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم‌السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم ؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة ، وكذا التنكير وقد جمعهما الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونظيره : قوله تعالى حين أثنى على نفسه : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج ، الآيتان : ١٥ ـ ١٦] فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم : المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن ، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي : لفظه مستقبل ومعناه الماضي ، أي : حتى أتتهم البينة ، وتبعه على ذلك الجلال المحلي. وقوله تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً) صفة الرسول ، أو خبره والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان أمّيا لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل : المراد جبريل عليه‌السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس ، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي : القرطاس ، والمراد ما فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة (مُطَهَّرَةً) أي : في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان ، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها ، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.

(فِيها) أي : تلك الصحف (كُتُبٌ) أي : أحكام مكتوبة (قَيِّمَةٌ) أي : مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك ، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : عما كانوا عليه ، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين ، لأنهم يظنون بهم علما فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي : أتتهم البينة الواضحة ، والمعنيّ به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بالقرآن موافقا للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته ، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم جحدوا نبوّته وتفرّقوا ، فمنهم من كفر بغيا وحسدا ومنهم من آمن كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [الشورى : ١٤]. وقال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم فيه. وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم

٦٦١

محضة ، والباقون بالفتح.

ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى : (وَما أُمِرُوا) أي : هؤلاء في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي : يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره ، واللام بمعنى أن كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦]. وقوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فيه دليل على وجوب النية في العبادات لأنّ الإخلاص من عمل القلب ، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره ، ومن ذلك قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ١١]. (حُنَفاءَ) أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وأصل الحنف في اللغة : الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير ، وسموا الميل إلى الشرّ إلحادا والحنيف المطلق الذي يكون متبرئا عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين. وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات ، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح ، وهو مقام التقى ، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأوّل من الورع ، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعنى وهو المقام الثاني من الورع ، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد ، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر : أحدهما : إلى الحق ، والثاني : إلى الخلق.

ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع ، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرّد عن العوائق ، فقال عز من قائل : (وَيُقِيمُوا) أي : يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود (الصَّلاةَ) لتصير بذلك أهلا بأن تقوم بنفسها ، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى.

ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى : (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي : يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين ، أي : ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة ، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه ، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣]. (وَذلِكَ) أي : والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي : الملة المستقيمة ، وأضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين ، وأنث القيمة ردّا بها إلى الملة. وقيل : الهاء للمبالغة فيه. وقيل : القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها ، أي : وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعوا إليه وتأمر به ، كما قال تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة : ٢١٣]. وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) فقال : القيمة جمع القيم ، والقيم والقائم واحد. قال البغوي : ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد.

ثم ذكر تعالى ما للفريقين فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : وقع منهم الستر لمرأى عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك ، وإن لم يكونوا عريقين فيه (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) أي : العريقين في الشرك (فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي : النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة (خالِدِينَ فِيها) أي : يوم القيامة ، أو في الحال لسعيهم لموجباتها. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع ، بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته (أُولئِكَ) أي : هؤلاء البعداء البغضاء (هُمْ) أي : خاصة بما لضمائرهم من الخبث (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي : الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم ،

٦٦٢

وهذا يحتمل أن يكون على التعميم ، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧] أي : عالمي زمانهم ، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم ، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح.

ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكدا ما للكفار من الإنكار : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان (وَعَمِلُوا) تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) أي : هذا النوع (أُولئِكَ) أي : هؤلاء العالو الدرجات (هُمْ) أي : خاصة (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي : على التعميم ، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق ، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال.

ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى : (جَزاؤُهُمْ) أي : على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : المربي لهم والمحسن إليهم (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة لا يحولون عنها (تَجْرِي) أي : جريا دائما لا انقطاع له (مِنْ تَحْتِهَا) أي : تحت أشجارها وغرفها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي : يوم القيامة ، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيما لجزائهم بقوله تعالى : (أَبَداً رَضِيَ اللهُ) أي : بما له من نعوت الجلال والجمال (عَنْهُمْ) أي : بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء ، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥]. وقال ابن عباس : ورضوا عنه بثواب الله عزوجل. (ذلِكَ) أي : الأمر العالي الذي جوزوا به (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي : خاف المحسن إليه خوفا يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل ، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين ، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذابا يأتيه لحقته حالة يقال لها : الخوف ، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته ، فإن اشتدّ سمي : وجلا لجولانه في نفسه ، فإن اشتدّ سمي : رهبا لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى ، وما فارق الخوف قلبا إلا خرب. روى أنس «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبيّ بن كعب : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال أبيّ : وسماني لك؟ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم فبكى أبيّ» (١). قال البقاعي : سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية ، فضرب صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا ، أي : خوفا ثم قصّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف ، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل ، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم البعث شهيدا ، وأنه نزل عليه الكتاب تبيانا

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٨٠٩ ، ومسلم في المسافرين حديث ٧٩٩ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٧٩٢.

٦٦٣

لكل شيء وهدى ورحمة ، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وأنّ اليهود اختلفوا في السبت.

وسورة لم يكن على قصرها حاوية إجمالا لكل ما في النحل على طولها وزيادة ، وفيها التحذير من الشك بعد البيان ، وتقبيح حال من فعل ذلك وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد فيكون شر البرية فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذكيرا له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّرا ، فيكون أرسخ في النفس ، وأثبت في القلب ، وأعشق للطبع ، فاختصه الله بالتثبيت ، وأراد له الثبات فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصدره ، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائبا عن تلاوة نفسه مصغيا بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة ، ولثبوته في هذا المقام قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرؤكم أبيّ» (١). قال القرطبي : وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. وقال بعضهم : إنما قرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع ، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة. وقيل : إنّ أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عليه ويعلم غيره وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ عليه. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا» (٢). حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٧٩٠ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٥٥.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٨٩.

٦٦٤

سورة الزلزلة

مدنية ، في قول ابن عباس وقتادة ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسع وأربعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) المحيط بكل شيء قدرة وعلما (الرَّحْمنِ) الذي عمّ الخلق بنعمته الظاهرة قسما (الرَّحِيمِ) الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة عينا واسما.

ولما قال تعالى : للمؤمنين (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) كأنّ المكلف قال : متى يكون ذلك فقيل : له :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) أي : تحرّكت واضطربت لقيام الساعة ، فالعاملون كلهم يكونون في الخوف وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك وتكون آمنا لقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٩]. (زِلْزالَها) أي : تحريكها الشديد المناسب لعظم جرم الأرض وعظمة ذلك كما تقول : أكرم التقي إكرامه ، وأهان الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة.

ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ) أي : كلها ، ولم يضمر تحقيقا للعموم (أَثْقالَها) أي : مما هو مدفون فيها من الكنوز والأموات. قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد : أثقالها أمواتها تخرجهم في النفخة الثانية ، ومنه قيل للجنّ والإنس : الثقلان. وقيل : أثقالها كنوزها ، ومنه الحديث : «تنفى الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» (١) فيعطيها الله تعالى قوّة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوّة أن تخرج النبات الصغير اللطيف الطريّ

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها ...» أخرجه بهذا اللفظ مسلم في الزكاة حديث ٢ ، ٦ ، والترمذي في الفتن حديث ٢٢٠٨ (باب ٣٦).

٦٦٥

الذي هو أنعم من الحرير ، فتشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاويل شق النواة مع ما لها من الصلابة التي استعصت بها على الحديد ، فتنفلق نصفين وينبت منها سائر ما يريده سبحانه وتعالى فالذي قدر على ذلك قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض ، وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن ، ويشق جميع منافذه من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل هناك بيكار ولا منشار ، ثم يخرج من البطن. هكذا إخراج الموتى من غير فرق كل ذلك عليه هين سبحانه. ما أعظم شأنه وأعز سلطانه.

(وَقالَ الْإِنْسانُ) أي : هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما أكده عنده من أمر البعث لما له من الأنس بنفسه ، والنظر في عطفه على سبيل التعجب أو الدهش والحيرة أو الكافر كما يقول : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢] فيقول له المؤمن : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس : ٥٢]. (ما لَها) أي : أيّ شيء ثبت للأرض في هذه الزلزلة الشديدة التي لم يعهد مثلها ولفظت ما في بطنها.

(يَوْمَئِذٍ) أي : إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه وقوله تعالى : (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) جواب إذا وهو الناصب لها عند الجمهور ، ومعنى تحدّث ، أي : تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ يومئذ ، ثم قيل : هو من قول الله تعالى ، وقيل : من قول الإنسان ، أي : يقول الإنسان ما لها تحدّث أخبارها متعجبا. روى الترمذي عن أبي هريرة أنه قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال : «أتدرون ما أخبارها قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل يوم كذا وكذا كذا وكذا. قال : فهذه أخبارها» (١).

تنبيه : في تحديثها بأخبارها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ الله تعالى يقلبها حيوانا ناطقا فتتكلم بذلك.

ثانيها : أنّ الله تعالى يحدث فيها الكلام.

ثالثها : أن يكون فيها بيان يقوم مقام الكلام. قيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها أي : تخبر الأرض بما عمل عليها.

(بِأَنَّ رَبَّكَ) متعلق بتحدّث ، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها والباء سببية ، أي : تحدّث بسبب أن ربك المحسن إليك بأنواع النعم (أَوْحى لَها) أي : أذن لها أن تتكلم بذلك المذكور بالقال أو بالحال على ما مرّ. قال البقاعي : وعدل عن قوله إليها إلى قول الله تعالى : (لَها) إيذانا بالإسراع في الإيحاء. وقال البغوي : أوحى لها وأوحى إليها واحد. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ،. وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ) بدل من يومئذ قبله منصوب بقوله تعالى : (يَصْدُرُ) أو باذكر مقدّرا ، أي : واذكر يوم إذ كان ما تقدّم وهو حين يقوم الناس من القبور يصدر (النَّاسُ) أي : يرجعون من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد بين الصاد والزاي ، والباقون بالصاد الخالصة (أَشْتاتاً) أي : متفرّقين بحسب مراتبهم في الذوات

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة حديث ٢٤٢٩.

٦٦٦

والأحوال من مؤمن وكافر ، وآمن وخائف ، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس : متفرّقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة ، أو متفرّقين فآخذ ذات اليمين على الجنة ، وآخذ ذات الشمال إلى النار (لِيُرَوْا) أي : يري الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده ، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَعْمالَهُمْ) فيعلموا جزاءها ، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله ، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلا الجملة التي قبله : (فَمَنْ يَعْمَلْ) من محسن أو مسيء ، مسلم أو كافر (مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً) أي : من جهة الخير (يَرَهُ) أي : يرى ثوابه حاضرا لا يغيب عنه شيء منه ، لأنّ المحاسب له الإحاطة علما وقدرة.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به ، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان ، أو على أنه جوزي في الدنيا فهو صورة بلا معنى ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس : من يعمل من الكفار خيرا يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة.

وفي بعض الأحاديث : إنّ الذرّة لا زنة لها ، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيرا ولا كبيرا ، وهو كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠]. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذر أن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة ، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة ، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شرّ ، ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة» (١). وقال أبو إدريس : إنّ مصداقه من كتاب الله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠]. وقال مقاتل : نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (٢) وتحذرهم من اليسير من الذنب ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ١٠ / ٩٦ ، ٢٠ / ١٨ ، والقرطبي في تفسيره ٨ / ١٤٦ وابن كثير في تفسيره ٤ / ٩٥ ، ٥ / ١٣٨ ، ٨ / ٤٨٤.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٩٥ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١٦ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٥٥٣.

٦٦٧

ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة : «إياك ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله تعالى طالبا» (١) وقال ابن مسعود : هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.

وقال كعب الأحبار : لقد أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.) وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمير فقال : «ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة» (٢) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.) وروى مالك في الموطأ أنّ مسكينا استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب ، فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت : أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة (٣) ، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه ، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال : حسبي قد انتهت الموعظة.

تنبيه : قوله تعالى : (يَرَهُ) جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء يره وصلا في الحرفين ، والباقون بضمها وصلا وساكنة وقفا كسائر هاء الكناية. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ إذا زلزلت أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كله» (٤) ، رواه الثعلبي بسند ضعيف لكن يشهد له ما رواه ابن أبي شيبة مرفوعا «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن» (٥).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه حديث ٤٢٤٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٢٢٦ ، وابن كثير في تفسيره ٧ / ٤٦١ ، ٨ / ٤٨٣.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٨ ، وتفسير سورة ٩٩ ، باب ١ ، ٢ ، والاعتصام باب ٢٤ ، ومسلم في الزكاة حديث ٢٤ ، ومالك في الجهاد حديث ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٢ ، ٣٨٣ ، ٤٢٤.

(٣) أخرجه مالك في الصدقة حديث ٦.

(٤) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٤٦

(٥) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٣٤٤ ، والقرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٤٦.

٦٦٨

سورة والعاديات

مكية ، في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك ، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الأمر كله فلا يسأل عما يفعل (الرَّحْمنِ) الذي نعمته أتم نعمة وأشمل (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.

وقوله سبحانه وتعالى :

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح ، والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال : أح أح ، قال عنترة (١) :

والخيل تكدح حين تض

بح في حياض الموت ضبحا

وانتصاب ضبحا على يضبحن ضبحا أو بالعاديات ، كأنه قيل : والضابحات ضبحا لأنّ الضبح يكون مع العدو ، أو على الحال ، أي : ضابحات ، والعاديات جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو وهو المشي بسرعة.

وعن ابن عباس : كنت جالسا في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحا ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليّ رضي الله عنه ، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت ، فقال : ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان ؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى. قال الزمخشري : فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك. قال ابن عباس : وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب ، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من

__________________

(١) البيت من مجزوء الكامل ، وهو في ملحق ديوان عنترة ص ٣٣٣ ، ولسان العرب (ضبح) ، وتاج العروس (ضبح).

٦٦٩

الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس.

ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفا بأداة التعقيب : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال عكرمة والضحاك : هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لا سيما عند سلوك الأوعار ، وقدحا منصوب بما انتصب به ضبحا. قال الزمخشري : ففيه الثلاثة أوجه المتقدّمة. وعن ابن عباس : أورت بحوافرها غبارا ، وهذا إنما يناسب من فسر العاديات بالإبل. وقال ابن مسعود : هي الإبل تطأ الحصى فتخرج منه النار وأصل القدح : الاستخراج ، ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد. وعن قتادة وابن عباس أيضا : أنّ الموريات قدحا الرجال في الحرب ، والعرب تقول : إذا أرادوا أنّ الرجل يمكر بصاحبه والله لأمكرنّ بك ثم لأورين لك ، وعن ابن عباس أيضا : هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل لحاجتهم وطعامهم ، وعنه أيضا : إنها نيران المجاهدين إذا كثرت إرهابا ليظنهم العدوّ كثيرا قال القرطبي : وهذه الأقوال مجاز كقولهم : فلان يوري زناد الضلالة والأوّل الحقيقة وأنّ الخيل من شدّة عدوها تقدح النار بحوافرها. وقال مقاتل : تسمى تلك النار نار أبي حباب ، وأبو حباب كان شيخا من مضر في الجاهلية من أبخل الناس ، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون فيوقد نويرة تقد مرّة وتخمد أخرى ، فإن استيقظ لها أحدا أطفأها كراهة أن ينتفع بها أحد ، فشبهت العرب هذه النار بناره لأنه لا ينتفع بها.

ولما ذكر العدو وما يتأثر عنده ذكر نتيجته وغايته بقوله : (فَالْمُغِيراتِ) أي : بإغارة أهلها وقوله تعالى : (صُبْحاً) ظرف ، أي : التي تغير وقت الصبح يقال أغار بغير إغارة إذا باغت عدوّه لنهب أو قتل أو أسر ، قال الشاعر (١) :

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا

شنوا الإغارة فرسانا وركبانا

وغار لغية.

(فَأَثَرْنَ) أي : فهيجن (بِهِ) أي : بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدّة العدو (نَقْعاً) أي : غبار الشدّة حركتهنّ والنقع الغبار.

تنبيه : عطف الفعل وهو فأثرن على الاسم لأنه في تأويل الفعل لوقوعه صلة لأل. وقال الزمخشري : معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، لأنّ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.

(فَوَسَطْنَ بِهِ) أي : بذلك النقع أو العدو أو الوقت (جَمْعاً) من العدوّ ، أي : صرن وسط العدو وهو الكتيبة ، يقال : وسطت القوم بالتخفيف ووسطتهم بالتشديد ، وتوسطتهم بمعنى واحد. وقال القرطبي : يعني جمع منى وهو مزدلفة ، فوجه القسم على هذا أنّ الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة وتعريضه بإبل الحج للترغيب فيه ، وفيه تعريض على من لم يحج بعد القدرة عليه كما في قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) [البقرة : ١٢٦] أي : من لم يحج (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧].

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لقريط بن أنيف في خزانة الأدب ٦ / ٢٥٣ ، والدرر ٣ / ٨٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٦٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٧٢ ، ٢٧٧ ، وللعنبري في لسان العرب (ركب) ، وللحماسي في همع الهوامع ٢ / ٢١ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٠ ، وجواهر الأدب ص ٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٩٥ ، ٣٦١.

٦٧٠

وجواب القسم قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه (لِرَبِّهِ) المحسن إليه بإبداعه ثم بإبقائه وتدبيره وتربيته (لَكَنُودٌ) قال ابن عباس : لكفور جحود لنعم الله تعالى. وقال الكلبي : هو بلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كندة وحضرموت العاصي. وقال الحسن : هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير والأرض الكنود التي لا تنبت شيئا ، وفي الحديث عن أبي أمامة هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده. وقال الفضيل بن عياض : الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان ، والشكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.

(وَإِنَّهُ) أي : الإنسان (عَلى ذلِكَ) أي : الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه (لَشَهِيدٌ) أي : يشهد على نفسه ولا يقدّر أن يجحده لظهور أثره عليه ، أو أن الله تعالى على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد.

(وَإِنَّهُ) أي : الإنسان من حيث هو (لِحُبِ) أي : لأجل حب (الْخَيْرِ) أي : المال الذي لا يعدّ غيره لجهله خيرا (لَشَدِيدٌ) أي : بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه ، أو بليغ القوة في حبه لأنّ منفعته في الدنيا ، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأنّ أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه تعالى ، ومع ذلك فهو لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة ربه وشكر نعمته ضعيف متقاعس.

ثم سبب عن ذلك قوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ) أي : هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه (إِذا بُعْثِرَ) أي : انتثر بغاية السهولة وأخرج (ما فِي الْقُبُورِ) أي : من الموتى. قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع : جعلت أسفله أعلاه. قال محمد بن كعب : ذلك حين يبعثون. فإن قيل : لم قال : (ما فِي الْقُبُورِ) ولم يقل من ، ثم قال بعد ذلك : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ) أجيب عن الأوّل بأنّ ما في الأرض غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب ، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث ، فلذلك كان الضمير الأوّل ضمير غير العقلاء ، والضمير الثاني ضمير العقلاء.

(وَحُصِّلَ) أي : أخرج وجمع بغاية السهولة (ما فِي الصُّدُورِ) من خير وشر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلا ، وظهر مكتوبا في صحائف الأعمال وهذا يدل على أن النيات يحاسب عليها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. وتخصيص الصدر بذلك لأنه محله القلب.

(إِنَّ رَبَّهُمْ) أي : المحسن إليهم بخلقهم وخلقهم وتربيتهم (بِهِمْ يَوْمَئِذٍ) أي : إذا كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة (لَخَبِيرٌ) أي : لمحيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم فكيف بظواهرها ومعنى علمه بهم يوم القيامة مجازاته لهم ، وإلا فهو خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره فكيف ينبغي للعاقل أن يعلق آماله بالمال فضلا عن أن يؤثره على الباقي. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر حسنات من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٩٥.

٦٧١

سورة القارعة

مكية ، وهي إحدى عشرة آية وست وثلاثون كلمة ومائة واثنان وخمسون حرفا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الأعلى (الرَّحْمنِ) الذي عمت نعمه إيجاده جميع الورى (الرَّحِيمِ) الذي خصّ أولياءه بالتوفيق لما يحب ويرضى.

ولما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته بقوله تعالى :

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(الْقارِعَةُ) أي : الصيحة ، أو القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار ، والأشياء الثابتة بالانتشار.

وقوله تعالى : (مَا الْقارِعَةُ) تهويل لشأنها وهما مبتدأ وخبر ، خبر القارعة ، وأكد تعظيمها إعلاما بأنه مهما خطر في بالك من عظمها فهي أعظم منه ، فقال تعالى : (وَما أَدْراكَ) أي : أعلمك (مَا الْقارِعَةُ) أي : إنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثلها ، وما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره ، وما الثانية وخبرها في محل المفعول الثاني لأدري.

واختلف في ناصب (يَوْمَ) على وجهين أحدهما أنه بمضمر دلّ عليه القارعة ، أي : تقرعهم يوم. وقيل تقديره : تأتي القارعة يوم (يَكُونُ النَّاسُ) والثاني أنه اذكر مقدّرا فهو مفعول به لا ظرف. وقوله تعالى : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) يجوز أن يكون خبرا للناقصة وأن يكون حالا من فاعل التامة ، أي : يؤخذون ويحشرون شبه الفراش شبههم في الكثرة والانتشار ، والضعف والذلة ، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار ، والفراش طائر معروف. قال قتادة : الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج ، الواحدة فراشة. وقال الفراء : هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما ، وبه يضرب المثل في الطيش والهرج يقال : أطيش من فراشة (١). وأنشدوا (٢) :

فراشة الحلم فرعون العذاب وإن

تطلب نداه فكلب دونه كلب

__________________

(١) انظر المستقصى في أمثال العرب للزمخشري ١ / ٢٣٠.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٧٢

وفي أمثالهم : أضعف من فراشة ، وأذل وأجهل. وسمي فراشا لتفرشه وانتشاره. وروى مسلم عن جابر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهنّ عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي» (١). وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وانتشارهم في الأرض ، وركوب بعضهم بعضا ، والكثرة والضعف ، والذلة والمجيء من غير ذهاب ، والقصد إلى الداعي من كل جهة ، والتطاير إلى النار. قال جرير (٢) :

إنّ الفرزدق ما علمت وقومه

مثل الفراش غشين نار المصطلي

والمبثوث المتفرق ، وقال تعالى في موضع آخر : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧] فإن قيل : كيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معا لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟ أجيب : بأنّ التشبيه بالفراش في ذهاب كل واحد إلى غير جهة الآخر ، وأمّا التشبيه بالجراد فبالكثرة والتتابع.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ) على ما هي عليه من الشدّة والصلابة وأنها صخورا راسخة (كَالْعِهْنِ) أي : الصوف المصبوغ ألوانا لأنها ملوّنة قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) [فاطر : ٢٧] أي : وغير ذلك (الْمَنْفُوشِ) أي : المندوف المفرّق الأجزاء فتراها لذلك متطايرة في الجوّ كالهباء المنثور ، كما قال تعالى في موضع آخر : (هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٦] حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمتا.

ثم سبب عن ذلك تعالى مفصلا لهم : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : برجحان الحسنات ، وفي الموازين قولان : أحدهما : أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى ، وهذا قول الفراء. والثاني : قال ابن عباس : إنه جمع ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال ، فتوزن فيه الصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات أو الأعمال أنفسها ، فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فإذا رجحت فالجنة له ، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف ميزانه فيدخل النار.

وقيل : إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار فيقتص منه على قدرها ، ثم يخرج منها فيدخل الجنة ، أو يعفو الله عنه فيدخل الجنة بفضله ورحمته. وأمّا الكافر فقد قال الله تعالى في حقه : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] ثم قيل : إنه ميزان واحد بيد جبريل عليه‌السلام يزن به أعمال بني آدم ، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل : موازين لكل حادثة ميزان ، وقيل : الموازين الحجج والدلائل قاله عبد العزيز بن يحيى ، واستشهد بقول الشاعر (٣) :

قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكل مخاصم ميزانه

(فَهُوَ) أي : بسبب رجحان حسناته (فِي عِيشَةٍ) أي : حياة يتقلب فيها. قال البقاعي : ولعله

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٢٢٨٥.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان جرير ص ٣٤٤.

(٣) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (وزن) ، وتاج العروس (وزن).

٦٧٣

ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة ، والمراد العيش ليفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا (راضِيَةٍ) أي : ذات رضا أو مرضية لأنّ أمّه جنة عالية.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ) أي : طاشت (مَوازِينُهُ) أي : غلبت سيئاته ، أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا.

(فَأُمُّهُ) أي : التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض أم لأنها تقصد لذلك ، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأمّ وكذا المسكن (هاوِيَةٌ) أي : نار نازلة سافلة جدّا ، فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلا فهو في عيشة ساخطة فالآية من الاحتباك ذكر العيشة أولا دليلا على حذفها ثانيا وذكر الأمّ ثانيا دليلا على حذفها أوّلا ، والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة لا يدرك قعرها.

وقال قتادة : هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال : هوت أمّه. وقيل : أراد أمّ رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم ، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وروي عن أبي بكر أنه قال : وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق وثقله في الدنيا ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وخفته في الدنيا ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف.

(وَما أَدْراكَ) أي : وأيّ شيء أعلمك وإن اشتدّ تكلفك (ما هِيَهْ) أي : الهاوية ، والأصل ما هي فدخلت الهاء للسكت وقرأ حمزة في الوصل بغيرها بعد الياء التحتية ووقف بها ، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا.

فإن قيل : قال هنا : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) وقال أوّل السورة : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) ولم يقل ما أدراك ما الهاوية؟.

أجيب : بأنّ كونها قارعة أمر محسوس وكونها هاوية ليس كذلك فظهر الفرق.

وقوله تعالى : (نارٌ حامِيَةٌ) خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي ، أي : الهاوية نار شديدة الحرارة. روى مسلم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم ، قالوا : وإنها لكافية يا رسول الله؟ قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرّها» (١) وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٧ ، ومالك في جهنم حديث ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٣ ، ٤٦٧.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٩٧.

٦٧٤

سورة التكاثر

مكية ، وهي ثمان آيات وثمانية وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) ذي الجلال والإكرام (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.

ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي : شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم ، وما ينجيكم من سخطه.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي : ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا ، والاستباق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت ، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم ، والعمل لآخرتكم ، وزيارة القبر عبارة عن الموت. قال الأخطل (١) :

لن يخلص العام خليل عشرا

ذات الضماد أو يزور القبرا

تنبيه : حتى غاية لقوله تعالى : (أَلْهاكُمُ) وهو عطف عليه ، والمعنى : حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زوارا ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار ، يقال لمن مات : قد زار قبره.

فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريبا والأموات ملازمون للقبور فكيف يقال : إنه زار القبر ، وأيضا حتى زرتم إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل.

أجيب : عن الأول : بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها ، فإن كل آت قريب ، وعن

__________________

(١) الرجز ليس في ديوان الأخطل ، وهو لمدرك بن حصين الأسدي في لسان العرب (ضمد) ، وتاج العروس (ضمد) ، وجمهرة اللغة ص ٦٤٤ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٢ / ٦ ، وجمهرة اللغة ص ٦٥٩ ، ١٣٠٠.

٦٧٥

الثاني : لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١٠] وقال أبو مسلم : إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرهم بنو عبد مناف ، وقالت بنو سهم : إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددا ، والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكما بهم ، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.

وقال قتادة في اليهود : قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان ، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالا ، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم ، والمعنى : ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر ، والمقابر : جمع مقبرة بفتح الباء وضمها ، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة ، واعترضه ابن عادل : بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس : ٢١] وهذا ممنوع فإنه قال المقابر ، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» (١). وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن زوّارات القبور» (٢). فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء ، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم ، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه ، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب الجلوس عليها.

ويسلم إذا دخل المقابر فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (٣). وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من قبل وجهه لأنه في زيارته كمخاطبه حيا ، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم ، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم ، وافترقت في التراب أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث ١٥٧١.

(٢) أخرجه الترمذي في الجنائز حديث ١٠٥٦.

(٣) هو من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد روي بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٣٩ ، والجنائز حديث ١٠٣ ، ١٠٤ ، وأبو داود في الجنائز باب ٧٩ ، والنسائي في الطهارة باب ١٠٩ ، والجنائز باب ١٠٣ ، وابن ماجه في الجنائز باب ٣٦ ، والزهد باب ٣٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٠ ، ٣٧٥ ، ٤٠٨ ، ٥ / ٣٥٣ ، ٣٦٠ ، ٦ / ٧١ ، ٧٦ ، ١١١ ، ١٨٠ ، ٢٢١.

٦٧٦

وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم ، وأنّ حاله كحالهم وماله كمالهم.

وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : «انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ هذه الآية قال : يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت» (١). وعن مالك قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ، ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» (٢). وقرأ ألهاكم حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بذنبه. وقوله تعالى : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم.

وقوله تعالى : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ كما يقال للمنصوح أقول لك لا تفعل ، والمعنى سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى ، وأن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم.

وعن عليّ كرم الله وجهه ورضي الله عنه (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الدنيا. (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرّر لحصول التغاير بينهما لأجل تغاير المتعلقين وثم على بابها من المهلة. وعن ابن عباس (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينزل بكم من العذاب في القبور (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالتكرار للحالتين. وروى زر بن حبيش عن علي كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة فأشار إلى أنّ قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبور. وقيل : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا نزل بكم الموت وجاءتكم رسل ربكم بنزع أرواحكم (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القيامة أنكم معذبون ، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة ، من بعث وحشر وعرض وسؤال إلى غير ذلك من أهوال القيامة ، وقال الضحاك : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني الكفار (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيها المؤمنون فالأوّل وعيد والثاني وعد.

ولما كان هذا أمرا صادقا أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة ، فقال سبحانه مردّدا الأمر بين تأكيد الردع تاليا بالأداة الصالحة له ، ولأن يكون بمعنى حقا كما يقوله أئمة القراءة : (كَلَّا) أي : ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر ، فإنه أساس كل بلاء فإنكم (لَوْ تَعْلَمُونَ) أي : أيها الكافرون (عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب ولا يجوز أن يكون.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جوابها لأن هذا مثبت ، وجواب لو يكون منفيا ولأنه تعالى عطف عليه ، ثم لتسألن وهو مستقبل لا بد من وقوعه وحذف جواب لو كثير. قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين لألهاكم بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد ، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيما.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٥٨ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٤٢ ، والنسائي في الوصايا حديث ٣٦١٣.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥١٤ ، ومسلم في الزهد حديث ٢٩٦٠ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٧٩ ، والنسائي في الجنائز حديث ١٩٣٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١٠.

٦٧٧

وقوله تعالى : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تكرير للتأكيد ، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد ، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار. (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي : الرؤية التي هي نفس اليقين ، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي : واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق ، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطوة الخاصة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير ما ألقي في القلب اليقين» (١) وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة : اليقين هنا الموت ، وعنه أيضا. البعث ، أي ، لو تعلمون علم الموت ، أو البعث فعبر عن الموت باليقين ، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل : لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت ..

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بعيون قلوبكم ، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ لترون ابن عامر والكسائي بضم التاء ، والباقون بالفتح.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات ، والواو لالتقاء الساكنين (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم رؤيتها (عَنِ النَّعِيمِ) وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك ، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] وقوله تعالى : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب ، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما ذلك للكفار ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٢) [سبأ : ١٧]» لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى ، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل : السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له : ألم نصحح جسمك ، ألم نروك من الماء البارد؟» (٣). وقيل : الزائد على ما لا بدّ منه ، وقيل : غير ذلك. قال الرازي : والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي ، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها.

وإذا قيل : إنّ هذا السؤال للكافر ، فقيل : هو في موقف الحساب ، وقيل : بعد دخول النار يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار ، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» (٤) حديث موضوع إلا آخره ، فرواه الحاكم بلفظ «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال : أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» (٥).

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٢٥ ، بلفظ : «خير ما وقر في القلوب اليقين».

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٧٧.

(٣) انظر القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٧٧.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠٠.

(٥) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٥٦٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٨٦.

٦٧٨

سورة العصر

مكية ، وروي عن ابن عباس وعبادة أنها مدنية ، وهي ثلاث آيات وأربع عشرة كلمة وثمانية وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي كل شيء هالك إلا وجهه (الرَّحْمنِ) الذي عمّ الوجود بإنعامه فليس شيء شبهه (الرَّحِيمِ) الذي أعز أولياءه فكانوا للدّهر غرّة ولأهله جبهه.

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

وقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ) قسم ، واختلف في المراد به. فقال ابن عباس : والدهر أقسم به لأنّ فيه عبرة للناظر بتصرّف الأحوال وتبدلها وما فيها من الدلالة على الصانع ، وقيل : معناه ورب العصر ومرّ الكلام في أمثاله وقال ابن كيسان أراد بالعصر الليل والنهار ، يقال لهما العصران وقال الحسن : بعد زوال الشمس إلى غروبها وقال قتادة : آخر ساعة من ساعات النهار وقال مقاتل : أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى ، وهذا أشبه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من فاتته الصلاة الوسطى فكأنما وتر أهله وماله» (١) ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بعشائهم.

ونقل ابن عادل عن مالك أنّ من حلف أن لا يكلم الرجل عصرا لم يكلمه سنة. قال ابن العربيّ : إنما حمل مالك يمين الحالف على السنة لأنه أكثر ما قيل فيه. ونقل عن الشافعي يبرّ بساعة إلا أن تكون له نية.

وجواب القسم. (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : الجنس (لَفِي خُسْرٍ) أي : نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعمارهم في إغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر ، والإعراض عن الغائب ، والاغترار بالفاني.

تنبيه : تنكير خسر يحتمل التهويل والتحقير ، فإن حمل على الأوّل وهو الظاهر كان المعنى :

__________________

(١) وروي الحديث بلفظ : «الذي تفوته صلاة العصر ، كأنما وتر أهله وماله» أخرجه البخاري في المواقيت حديث ٥٥٢ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٢٦ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٤١٤ ، والترمذي في الصلاة حديث ١٧٥ ، والنسائي في الصلاة حديث ٤٧٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٦٨٥.

٦٧٩

إنّ الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى ، لأنّ الذنب يعظم إمّا لعظم من في حقه الذنب ، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة ، فلذلك كان الذنب في غاية العظم. وإن حمل على الثاني كان المعنى : إن خسران الإنسان دون خسران الشيطان

ولما كان الحكم على الجنس حكما على الكلّ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك ، وكان فيهم من خلصه الله تعالى مما طبع عليه الإنسان وحفظه عن الميل استثناهم بقوله عز من قائل : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من توحيده سبحانه ، والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. (وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لما أقرّوا به من الإيمان (الصَّالِحاتِ) أي : هذا الجنس من إيقاع الأوامر واجتناب النواهي ، واشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية ، فلم يلحقهم شيء من الخسران.

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : المراد بالإنسان الكافر ، وقال في رواية الضحاك : يريد به جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب. وقيل : لفي خسر غبن وقال الأخفش لفي هلكة وقال الفراء : لفي عقوبة. وقال ابن زيد : لفي شرّ. وروى ابن عوف عن إبراهيم قال : أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وأهرم لفي ضعف ونقص وتراجع إلا المؤمنين فإنه يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم ، ونظيره قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [التين : ٤ ـ ٦].

ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره ، وحينئذ كان وارثا لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل. قال تعالى مخصصا لما دخل في الأعمال الصالحة منبها على عظمه : (وَتَواصَوْا) أي : أوصى بعضهم بعضا بلسان الحال والمقال (بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت وهو كل ما حكم الشرع بصحته ولا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته ، واتباع كتبه ورسله ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة (وَتَواصَوْا) أيضا (بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات ، وعلى ما يبتلي الله به عباده من الأمراض وغيرها.

ويروى عن أبيّ بن كعب أنه قال : قرأت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعصر ، ثم قلت : ما تفسيرها يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والعصر قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار إنّ الإنسان لفي خسر أبو جهل إلا الذين آمنوا أبو بكر ، وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان ، وتواصوا بالصبر عليّ» (١). وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفا عليه. وقال قتادة : بالحق ، أي : بالقرآن. قال السدّي : الحق هنا الله عزوجل. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة والعصر غفر الله له ، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» (٢). حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٨٠.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨٠١.

٦٨٠